الأم المعطاء

نظرتُ إلى عينيها المتعبتين، وقسمات وجهها المجهدة، وشعرتُ برجفة يدها الحانية، فها هي أمّي تصل الليل بالنهار، وتنتقل كنحلة مُجدّة في كلّ أرجاء البيت فلا تترك فيه ركناً إلّا ونظّفته ورتّبته، ولا تترك فيه فرداً إلّا ولبّت له حاجاته، فهذا تذاكر له امتحانه، وذاك تخيط له ملابسه، وتلك تحضّر لها ما تشتهيه من حلويات، وأبي تخفف عنه أعباء الحياة وتعبها، وغير ذلك الكثير، تفعل كلّ ذلك وابتسامتها لا تفارق وجهها رغم تعبها، تفعل كل ذلك عن طيب نفس ورضا خاطر، فليس هناك ما هو أحبّ إليها من رؤيتنا مسرورين مرتاحين، حتى وإن كان ذلك على حسابها، آه يا أمي..يا أحبّ خلق الله إليّ.


من يستحق الهدية أكثر منك يا أمي

نظرت في عينيها وقد تذكّرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين قال: هَادُوا تَحَابُّوا)، فالهدية تبعث في النفس الفرح والسرور مهما كانت بسيطة، وتُشعر الإنسان أنّ ثمة من يتذكّره ويقدّر وجوده، ثم جال في بالي سؤال " أهناك من يستحق منّا أن نهديه ونشعره بقيمته أكثر منك يا أمي؟"، قمت مسرعاً عن مائدة الطعام وما زال في طبقي القليل، وحمدتُ الله وركضتُ إلى غرفتي وصوت أمي الحاني يقول: "أين تذهب يا بني؟ أكمل ما بقي في طبقك من طعام، لقد أعددته خصيصاً لك"، شكرتها وأخبرتها بأنني شبعت، وانطلقت إلى غرفتي أفكر "ترى ماذا أحضر لك يا سيدة كل نساء الأرض؟"، ثم خطر لي أن أجمع إخوتي جميعاً لنتشارك في هدية ترسم على شفتيّ أمّنا الحبيبة البسمة التي نحب ونهوى، وبالفعل طرحتُ الفكرة على إخوتي، فنظروا في بعضهم في البداية مستغربين، وقال خالد -أصغرنا-: لكنّ عيد الأمّ ليس بقريب، وذكرى ميلادها فات منذ أشهر، فلم الهدية؟ ابتسمتُ وأخبرتهم أن عطاء أمي يحتاج منّا لتقدير بلا مناسبة ولا عيد أم، فكما أنّ عطاءها مستمر لا ينقطع، يجب أن يكون تقديرنا كذلك، وأنّ هدية بسيطة بغير مناسبة قد تتسبب بسعادة كبيرة لها أكثر من هدية تتوقعها.


هزّ إخوتي رؤوسهم موافقين وبدأنا نتناقش بما سنحضره لها، وبعد مداولات طويلة قررنا أن نحضر لها باقة من الزهور التي تشبهها في جمالها، وغسالة أطباق تريحها من عناء غسلها يومياً، وبعد أن شاركنا أبي فكرتنا قمنا بشراء الهدية فعلاً، وغلّفناها بورق هدايا ملون جميل، وكتب كلّ واحد منّا عبارة تنبع من قلبه على كرت أرفقناه بباقة الورد.


فرحة الأم عند تقديم الهدية

انتظرنا حتى خرجت أمي في موعدها المعتاد إلى السوق لتحضر بعد حاجيات البيت، ووضعنا الهدية في غرفة الاستقبال، فيما وقفنا حولها ووالدي يتوسّطنا حاملاً باقة الورد، وما إن فتحت الباب ورأت المنظر حتى لمعت في عينيها نظرة لم أرها من قبل، لقد كانت لمعة مفاجأة وفرح في الوقت ذاته، هي لا تعرف ما في داخل الهدية إلى الآن لكنني أعلم أن فرحتها في الموقف كانت أكبر من فرحتها بغسالة الأطباق المنتظرة، وبينما نحن على هذه الحال حتى تساقطت من عينيها الغاليتين الدموع، فتقدّم أبي ومسحها، وتقدّمنا نحن وحضنّاها جميعاً، فقالت: أحبائي...ما المناسبة؟ فردّ أبي: لا مناسبة...سوى أنّك تستحقين أكثر من ذلك بكثير، فجزاك الله عنّا كلّ خير، ابتسمت أمّي وأخذت تقبّلنا جميعاً وهي تقول: هذه أجمل مفاجأة تلقيّتها منذ سنين، بارك الله لي فيكم وفي هذا الأب العطوف، وأدام المحبّة لنا كنزاً.


الخاتمة

لا أنسى ابتسامة أمي اللامعة ذلك اليوم، وطاقتها التي تجددت بسبب شعورها بأنّ جهودها لم تضع سُدى، وبأنّ هناك من يقدّر بذلها الدائم وتفانيها غير المنقطع.


للمزيد من المواضيع: تعبير عن عيد الام، تعبير عن الأم